الجمعة , 16 مايو 2025 - 2:37 مساءً

دخول التلفاز إلى بيوت العائلات الفلسطينية في حيفا بعد النكبة: نافذة على العالم وتجديد للتواصل

الصورة بلطف عن شبكة مراسلين

الصورة بلطف عن شبكة مراسلين

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

كتبت: سامية عرموش

مثّل دخول التلفاز إلى بيوت الفلسطينيين في حيفا وبقية مدن وقرى فلسطين في أراضي 48 خلال الخمسينيات والستينيات أكثر من مجرد تقدم تقني؛ لقد كان حدثًا استثنائيًا ذا أبعاد اجتماعية وثقافية عميقة؛ ففي ظل غياب وسائل إعلام فلسطينية مستقلة وفي سياق الواقع الجديد لما بعد النكبة، تحول التلفزيون من جهاز حديث إلى نافذة على العالم الخارجي ووسيلة حيوية للتواصل مع الأحداث الكبرى.لم يكن مجرد أداة ترفيه، بل أصبح مصدرًا رئيسيًا للأخبار والمعلومات، ليخلق بذلك تجربة إنسانية فريدة أعادت تشكيل التفاعلات الاجتماعية وفتحت آفاقًا جديدة.
يستعرض هذا المقال هذه التجربة من خلال قصص من حيفا وكفرياسيف ومخيم حمص، ليبرز الدور المحوري الذي لعبه التلفزيون في حياة الفلسطينيين في تلك الفترة.

جنازة عبد الناصر على شاشة حيفا: لحظة حزن ووحدة عربية

تروي سامية خضر عودة، من مواليد عام 1964، ذكرى مؤثرة تجسد تأثير التلفزيون في تلك الحقبة. تتذكر سامية كيف دعت عائلة جدها السيد حسن خضر عودة الله (أبو عزات) وهو من أصول نابلسية، المقيمة في الحي الألماني بمدينة حيفا، الجيران والأصدقاء في إحدى الأمسيات التي خيم عليها الحزن العميق وارتفعت فيها الروح الوطنية، لمتابعة البث التلفزيوني لجنازة الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1970. لم تكن تلك اللحظة مجرد متابعة لحدث سياسي، بل تحولت إلى تجمّع وجداني مؤثر عبّر فيه الحاضرون عن حزنهم العميق لفقدان الزعيم العربي المحبوب.

وتستطرد سامية في وصف مشاعرها كطفلة في ذلك اليوم قائلة: ‘كان منزلنا قريبًا من بيت جدي، خطوات قليلة تفصل بيننا. أردت الذهاب للعب في ساحة البيت، لكنني شعرت بهدوء غريب وحزن يخيم على الشارع. عندما دخلت بيت جدتي، وجدت غرفة الاستقبال الثالثة مليئة بالجيران وأصدقاء جدي والعائلة، ووجوه غريبة أخرى، يعلوها الحزن والدموع. عندما سألت أمي عما يجري، طلب منا الجميع الصمت. جلست أراقب بفضول، ورأيت الجميع ينظرون بتركيز إلى شاشة التلفزيون وأيديهم مرفوعة للدعاء، يقرأون الفاتحة بصوت خفيض ويصلون صلاة الغائب. عندها فهمت أنه يوم رحيل جمال عبد الناصر، الزعيم الذي أحبته الأمة العربية. وحتى اليوم، أذكر ذلك اليوم وعظمة ذلك الإنسان المبجل.

من حيفا إلى حمص: رحلة اللجوء وبدايات التلفزيون في المخيم

اما الطبيبة الفلسطينية، حيفاوية الأصل هدى دحبور، فقد حدثتنا عن رحلة اللجوء من حيفا الى مخيم حمص وعن دور التلفزيون كرابط مع الوطن المفقود، حيث قالت: كان جدي قد هاجر من حيفا لحماية عائلته من أحداث القتل والعنف التي ارتكبتها عصابات الهاغانا اليهودية، والذين بدأوا بتهجير السكان بشكل غير شرعي من شواطئ حيفا بتسهيل من الجيش البريطاني الذي كان يحتل فلسطين آنذاك. كان الاعتقاد السائد هو العودة بعد أسبوع.

ومن حيفا، اتجهت العائلة برًا عبر لبنان، حيث استقر جزء منها هناك. أما جدي وعائلته المصغرة والممتدة، بما في ذلك أخته وأصهاره، فقد واصلوا الرحلة إلى حمص في سوريا.

والدي، الذي كان يبلغ من العمر 16 عامًا آنذاك، طلب من مخاتير حمص، الذين جمعوا لهم المساعدات، تأمين فرص عمل لإعالة عائلاتهم. عمل أبي وأصدقاؤه في مهن مختلفة مثل حفر الآبار وتزفيت الشوارع لتوفير قوت يومهم. في الوقت نفسه، كان أبي يتابع تعليمه من خلال الدراسة المنزلية ليتمكن من تقديم امتحانات نهاية العام الدراسي دون الالتحاق بمدرسة رسمية.

لاحقًا، ولمّ شمل العائلة، تزوج أبي من والدتي، وهي ابنة عمته من نابلس، وكانت جزءًا من العائلة التي تركوها خلفهم.

نجح والدي في الثانوية العامة وحصل على وظيفة براتب شهري في مصفاة حمص. ومع ظهور التلفزيون، ساعدته والدتي، التي بدأت تعمل على ماكينة الخياطة، في شراء جهاز تلفزيون، والذي أصبح مركزه ساحة بيتنا في مخيم حمص الذي خصصته لنا وكالة الغوث.

لم يكن لباب بيتنا قفل بالمعنى الحرفي، حيث كان يجتمع الجيران في بيتنا لمشاهدة البرامج والمنوعات، ولكل برنامج جمهوره الخاص. كانت تلك سهرات مليئة بالأحاديث والأخبار وكؤوس الشاي برائحة الميرمية والترمس والذرة المسلوقة. ومن ثم، يتناقلون أخبار المخيم والوطن والعمليات الفدائية. هكذا كانت تمضي الليالي.

إلى أن ازددنا بعدًا عن الوطن بعد النكسة، ولكن في المقابل، ازددنا قربًا من بعضنا البعض. وبدأ كل بيت يستقل بجهازه التلفزيوني الخاص.

لقد كنا حيفا في فرع مخيم حمص.

 

وفي خضم التحولات الكبرى التي شهدتها فلسطين، تركت بصمات عميقة في ذاكرة أبنائها. هذه الشهادات الحية، التي يقدمها لنا أبو ربيع المنحدر من عيلبون وسوسن مرقص المنحدرة من كفرياسيف، وكلاهما يعيشان اليوم في حيفا، تضيء جوانب من تلك الحقبة، وتحديدًا تأثير دخول التلفزيون إلى حياة الناس.
من خلال عيونهما، نلامس بساطة الحياة والتحديات اليومية، والشغف بوسائل الترفيه القليلة المتاحة، التي جمعت العائلات والجيران في زمن كان فيه التواصل والترابط الاجتماعي أكثر قيمة وأهمية.
تلك اللحظات المشتركة أمام شاشة التلفزيون، سواء لمشاهدة حدث رياضي أو برنامج فني أو حتى للاستفادة من وصلة كهرباء، تحمل في طياتها قصصًا عن التكيف والصمود والتوق إلى حياة أفضل. هذه الكلمات هي بمثابة نافذة صغيرة نطل منها على تفاصيل حياة ربما تبدو بسيطة، لكنها تحمل في جوهرها الكثير عن روح المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة.

“أبو ربيع” – عيلبون: التلفزيون وساحة الترفيه المشترك في قهوة القرية بعد النكبة

يستحضر زريق فريد زريق، المعروف بكنيته “أبو ربيع”، المولود في عيلبون في الثلاثين من شهر آب عام 1940، ذكريات الماضي ببساطة وعفوية. عمل في مجال البناء والعمالة المعمارية، وكان معروفًا بين جيرانه بجدّه ومثابرته في العمل. يتذكر أبو ربيع كيف كان التلفزيون يمثل نافذة الترفيه الوحيدة المتاحة لأهالي عيلبون، خاصة في ظل محدودية امتلاك الأجهزة في المنازل.

كانت القهوة الوحيدة في القرية آنذاك تتحول إلى ساحة تجمع لمشاهدة فعاليات رياضية مثل مباريات المصارعة التي كان يشارك فيها الأخوان سعادة، أو للاستمتاع ببث أغاني الفنانة المحبوبة سميرة توفيق. يعكس هذا المشهد أهمية التلفزيون في حياة الفلسطينيين في الداخل بعد النكبة؛ فبالرغم من قلة توفره، إلا أنه كان وسيلة للتواصل الاجتماعي المشترك والترفيه الذي يجمع الناس ويخفف من وطأة الظروف.

سوسن مرقص – من كفرياسيف إلى حيفا: التلفزيون كنافذة على العالم وتوحيد اجتماعي في جيل ما بعد النكبة

ولدت سوسن مرقص في الثاني والعشرين من شهر شباط عام 1962 في كفرياسيف، وهي تنتمي إلى الجيل الثاني من الفلسطينيين الذين عايشوا تبعات نكبة عام 1948. عملت سوسن كمربية للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو عمل يعكس عمق إنسانيتها.
تستحضر سوسن في ذاكرتها تفاصيل الحياة اليومية في كفرياسيف في تلك الفترة، والتي تميزت بتحديات مثل عدم توفر التيار الكهربائي للجميع في القرية. تتذكر سوسن هذا الواقع قائلة: “نص البيت فيه كهربا، ونصفه بدون كهربا. كنا نتقسم أنا وأمي وأبوي وأختي، قسم يروح عند الجارة يحضر التلفاز، وقسم عند الجار يحضر التلفاز.” وفي ظل هذه الظروف، اكتسب التلفزيون مكانة اجتماعية خاصة. فبالرغم من أن امتلاك جهاز تلفزيون لم يكن متاحًا لكل بيت، إلا أنه كان يمثل نقطة التقاء وتوحيد لأهل البلدة.

كان هذا الجهاز بمثابة نافذة يطلون منها على العالم الخارجي، يتعرفون من خلاله على الأحداث الثقافية والترفيهية التي تجري في البلدان العربية وغيرها. تتذكر سوسن كيف كانت العائلات تجتمع في البيوت التي يتوفر فيها التلفزيون لمشاهدة البرامج، وكيف كان يساهم في خلق شعور بالانتماء المشترك والاطلاع على ما يجري حولهم في ظل محدودية وسائل الاتصال الأخرى.
وتضيف سوسن عن تلك الفترة عادة اجتماعية مميزة: “عادة النساء كانوا يحضروا تلفزيون ببيت منفصل عن البيت الي كانوا الرجال يحضروا فيه المصارعة.” اليوم، تعيش سوسن في مدينة حيفا، وتحمل في ذاكرتها هذه الصور الحية التي تعكس كيف كانت التكنولوجيا، رغم محدوديتها آنذاك، تلعب دورًا مهمًا في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع الفلسطيني في فترة ما بعد النكبة، وكيف كانت الحاجة تجمع الناس وتوحدهم.

في الختام، يتضح أن دخول التلفزيون إلى بيوت الفلسطينيين في حيفا في فترة ما بعد النكبة لم يكن مجرد حدث عابر في تاريخ التكنولوجيا، بل كان له تأثير عميق على النسيج الاجتماعي والثقافي. لقد أصبح التلفزيون وسيلة للتواصل، ونافذة على العالم، ومصدرًا للأخبار والمعلومات في ظل ظروف استثنائية.
تحمل هذه الذكريات والقصص في طياتها دروسًا قيمة عن قدرة الإنسان على التكيف والبحث عن سبل للتواصل والترابط حتى في أصعب الأوقات، مؤكدة على أهمية حفظ هذه اللحظات في ذاكرتنا الجماعية.

×