الأربعاء , 04 يونيو 2025 - 2:21 مساءً

منار حسن… حين تكتب المرأة الفلسطينية كي لا تُمحى

الباحثة والناشطة منار حسن

الباحثة والناشطة منار حسن

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

بقلم: رانية مرجية - كاتبة وناشطة فلسطينية

في حضرة الحكاية، هناك دائمًا من يحاول إقصاء من لا يملك صوتًا جهورًا. وفي حضرة الوطن، هناك دومًا من يختزل البطولة في صورة رجل يحمل بندقية، ويُقصي كل امرأة تحمل صمتًا، دمعة، رحمًا، أو ذاكرة. في خضم هذا الطوفان من التهميش والطمس المتعمد، تُطل علينا منار حسن، لا كباحثة نسوية فحسب، بل كحارسة لذاكرة النساء الفلسطينيات، تلك الذاكرة التي لطالما عاشت على الهامش، في الظلال، خلف السواتر العالية للخطاب الذكوري الوطني والسياسي.

منار حسن لا تُكتب عنها المقالات العابرة، لأنها لا تُشبه المثقفين الذين يجلسون في صالونات التنظير ويتحدثون عن "الهوية" وهم يحملون جوازات سفر مزدوجة ويتنقلون بين المؤتمرات مثل السياح. منار ليست زائرة لذاكرة النساء، هي ابنة هذه الذاكرة، تربّت في ظلها، عاشت ألمها، وقررت أن تقاوم النسيان بالكلمة، والخذلان بالفكر، والإقصاء بالإصرار.

حين أنجزت أطروحتها للدكتوراه حول "النساء، المدينة الفلسطينية، والحرب على الذاكرة"، لم تكن بصدد تقديم ورقة بحثية لاختبار أكاديمي. كانت، كما أتصورها، تفتح قبرًا جماعيًا لذاكرة نسوية تم دفنها عمدًا تحت ركام الوطنية الذكورية. منار نبشت الحكايات المطموسة، استعادت همسات الجدات، طرقت أبواب البيوت الموصدة على أسرار النكبة، ورفعت أصوات النساء اللواتي لم يُسمع صراخهنّ إلا من بطون الذاكرة المحروقة.

إنها تدرك، ونحن ندرك معها، أن الذاكرة ليست حيادية. وأن ما لا يُروى، يُنسى، وما يُنسى، يُمحى. ولهذا اختارت أن تكون شاهدة على زمن اجتمع فيه الاحتلال والقهر الذكوري والليبرالية المزيفة على قتل المرأة الفلسطينية مرتين: مرة في الواقع، ومرة في الرواية.

في بحثها، في مقالاتها، في نشاطها، منار لا تتحدث بلغة مستعارة، بل بلغة النساء الفلسطينيات الحقيقيات – النساء اللواتي أُرغمن على مغادرة حيفا واللد ويافا وأُجبرن على الصمت، النساء اللواتي خضن المخاض في خنادق اللجوء، واللواتي أطعمن أولادهن من فُتات الكرامة. هي تُسميهن بأسمائهن، وتُعيدهن إلى مشهد الحكاية بوصفهن ركائز المجتمع، لا مجرد زينة على الهامش.

منار لا ترى في النسوية رفاهية أكاديمية. بل تُصر على أن النسوية الفلسطينية لا يمكن أن تُفصَل عن المشروع الوطني التحرري، ولا يمكن أن تكون تابعًا لأي خطاب مستورد. لذا أسست تنظيم "الفنار"، ليكون صوتًا نسويًا فلسطينيًا مستقلًا، لا يتلون بحسب الممولين، ولا ينصاع لخطاب الدولة الذكورية التي ما زالت ترى في المرأة أداة سياسية، لا إنسانًا كاملاً له حق الصراخ، الحلم، والكتابة.

في زمن باتت فيه بعض الأصوات تبيع وجع النساء الفلسطينيّات على طاولات "المنظمات غير الحكومية"، وتُمارس نسوية "استعراضية" بلغة إنجليزية صقيلة مفصولة عن واقع النساء في المخيمات والمضارب، منار تنتمي إلى نسوية الأرض والخبز والأمومة والصمت العالي. تنتمي إلى نساء لا يُغنين في المسارح، بل يربّين جيلاً بأكمله في صمت من دون أن يُصفق لهن أحد.

هي تكتب المدينة من منظور أنثوي، لا بمعنى التجميل، بل بمعنى التعرية. تخلع عن المدن الفلسطينية كل زخرفٍ كاذب، وتعيد رسمها من خلال أثر الخطوات النسائية على عتباتها: الأرصفة، المطابخ، شرفات الصبر، وأبواب البكاء. المدينة ليست حجرًا في كتابات منار، بل جسدٌ نسائيٌ جريح. تنزف كما تنزف النساء. ويُعاد بناؤها فقط حين تُعاد لهن أصواتهن.

كلما قرأت نصًا لمنار، شعرتُ بأنني أقرأ مرآتي، مرآة أمي، وجدتي، وكل النساء الفلسطينيات اللواتي مررن على هذه الأرض. هناك صدق في صوتها لا يُشترى. هناك وجع لا يُصطنع. وهناك معرفة لا تأتي من الكتب، بل من الحياة المعاشة، من التناقضات، من المرارة، من الحب القاسي لفلسطين، تلك التي تخذلنا أحيانًا، لكننا لا نتوقف عن حبها.

لذلك أقول، ومن موقع امرأة فلسطينية عاشت وذاكرت:
منار حسن ليست فقط باحثة. هي كاتبة قدرها أن توثق من أجل نساء لا تُوثق حياتهن. هي حارسة لذاكرة من لم يُمنحن الحق بالحكي. وهي شاهدة لا تساوم على صراخ الأنثى وسط ضجيج البنادق.

في عالمٍ يحاول أن يُقصينا من المشهد، منار تُعيدنا إلى المركز. إلى حيث يجب أن نكون.

×