الجمعة , 06 يونيو 2025 - 11:35 مساءً

مريم نجمة… ابنة الشمس والموقف والقصيدة

مريم نجمة - صورة وصلتني من رانية مرجية

مريم نجمة - صورة وصلتني من رانية مرجية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

 بقلم: رانية مرجية

ليست مريم نجمة مجرد اسم في سطر ثقافي، ولا مجرد كاتبة تملأ الفراغ بين عامين وتاريخين.
هي ذاكرة شعب، ونبض وطن، ورمز أنثوي فريد، صاغ ذاته بالكلمة والتجربة والنضال.
هي واحدة من تلك الأصوات النادرة التي لم تسعَ إلى الضوء، بل كانت هي النور الذي يوقظ الوعي، والملح الذي يحفظ ذاكرة الأرض من النسيان.

وُلدت مريم في مدينة حيفا عام 1937، المدينة التي حملت البحر في صدرها، ثم خذلتها النكبة فغرقت في النزوح والشتات. وما بين الطفولة الفلسطينية التي سرقها الاحتلال، والنشأة في دمشق التي فتحت لها حضنًا، تشكّل وجدان مريم نجمة. لم تكن دمشق بالنسبة لها محطة عبور، بل وطنًا ثانيًا حملت له من الوفاء ما لا يقل عن حبها لحيفا. وفي هذا المزيج السوري–الفلسطيني، صاغت رؤيتها الإنسانية العميقة، وهويتها الفكرية المركّبة.

لم تكن مريم يوماً كاتبة صدى، بل كانت دائمًا صوتًا، بل نداءً، بل نبوءة.
تكتب كما تتنفس: بحرية وجرأة وشفافية موجعة.
كلماتها ليست زينة لغوية، بل سلاح في وجه الظلم، ومرايا تعكس وجع الإنسان العربي – إنسانًا مكسور الجناح، منفيًا عن ذاته، يُدفن وهو حيّ باسم الشرف والدين والوطن.

لقد آمنت مريم نجمة بأن الكتابة فعل مقاومة.
لم تكن الكلمة لديها زينة ولا ترفًا، بل جمرًا يُقذف في وجه القمع والاستبداد.
كتبت عن المرأة، لا بوصفها ضحية فقط، بل بوصفها كائنًا قادرًا على التغيير، على الثورة، على الخلق من جديد.
لم تستسلم للخطابات النسوية الجاهزة، بل نسجت خطابًا إنسانيًا مؤنثًا، يصرخ في وجه التقاليد القامعة، والدين المسلّح بالسلطة، والسلطة المتسلّحة بالخوف.

في مقالاتها التي نشرتها عبر المنصات الحرة – من “الحوار المتمدن” إلى “النداء” وغيرها – تقرأ فلسطين كما لو كانت هي نفسها، ويبدو الوطن فيها جرحًا شخصيًا لا تهدأ حرارته.
فلسطينها ليست فقط جغرافيا، بل ذاكرة جمعية، ومسؤولية أخلاقية، وتاريخ يجب ألا يُنسى.

ولعلّ ما يميّز مريم نجمة عن كثير من الكتّاب والمثقفين، أنها لم تكن تابعة لأيديولوجيا عمياء، ولا رهينة لمؤسسة ثقافية، بل احتفظت بمسافة حرة، دفعت ثمنها من منفاها، من تجاهل المؤسسات لها، من وحدتها في وجه العتمة.
لكنها أصرّت أن تقول “لا”، حين كان الجميع يهمس بـ”نعم”.
ولم تتورط في الصمت، حتى حين صار الصمت هو الطريق الأقصر للنجاة.

إننا حين نقرأ مريم نجمة، لا نقرأ مقالات أو خواطر، بل نقرأ امرأة ذات ضمير يقظ، وذاكرة لا تهدأ، وبصيرة لا تخون.
نقرأ حيفا ودمشق واللاجئين والمظلومين والنساء والرجال البسطاء الذين لم يعنِ لهم الوطن سوى الأمل المستحيل.

في عالم يستهلك المبدعين ويكرّمهم فقط بعد موتهم، نقول:
فلنُكرم مريم نجمة الآن.
فلنرفع لها قبعة الوفاء، وهي لا تزال تنبض، تفكر، تكتب، تناضل.
فليس أصدق من تكريم يُهدى إلى القلب وهو ينبض، وإلى العقل وهو يضيء، وإلى اليد وهي ما زالت تكتب.

مريم نجمة، يا ابنة الشمس والموقف والقصيدة…
لك المجد، ولك الشكر من كل من قرأك، وتعلّم منك، ووجد فيك صدى صوته المقموع

×