"برسيبوليس": صرخة إيران بالأبيض والأسود في وجه الألوان المفقودة

"برسيبوليس": صرخة إيران بالأبيض والأسود في وجه الألوان المفقودة
كتبت: سامية عرموش
في خضم التوترات المتصاعدة التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، وتحديدًا بعد التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، وجدت نفسي أستعيد شريط الذاكرة لأتوقف عند عمل فني طالما ترك بصمته في وعيي. تذكرت فيلمًا تناولناه خلال دراستي قبل نحو أحد عشر عامًا في مساق الماجستير، فيلمًا يتردد صداه اليوم بقوة أكبر من أي وقت مضى: "برسيبوليس" (Persepolis).
هذا الفيلم، الذي صدر عام 2007، ليس مجرد تحفة فنية وإنسانية تُجسد سيرة ذاتية مؤثرة للكاتبة والمخرجة الإيرانية-الفرنسية مارجان ساتراپي. إنه نافذة عميقة على تاريخ إيران المعاصر، وتصوير صادق لتأثير الأحداث السياسية على حياة الأفراد، وكيف أن هذه التأثيرات لا تزال تشكل واقعنا اليوم. "برسيبوليس" يأخذنا في رحلة مع مارجان الصغيرة، التي نشأت في طهران خلال فترة حاسمة من تاريخ إيران، بدءًا من الثورة الإسلامية عام 1979 وما تلاها من صراعات وحروب، وصولًا إلى فترة مراهقتها وشبابها في أوروبا وعودتها إلى وطنها. الفيلم يتتبع كفاحها من أجل الحرية، هويتها، ومكانها في عالم مضطرب.
نبذة عن المخرجة ودوافعها الفنية
المخرجة مارجان ساتراپي هي فنانة متعددة المواهب، استخدمت موهبتها في الرسم والكتابة لتسليط الضوء على تجاربها كفتاة إيرانية نشأت في ظل نظام متشدد. تتميز أعمالها بأسلوب بصري فريد يجمع بين البساطة والعمق، وقدرتها على دمج الفكاهة السوداء مع قضايا سياسية واجتماعية حساسة. جدير بالذكر أنها أخرجت عدة أفلام أخرى، منها "دجاج بالخوخ" و"مشعة" الذي يتناول سيرة ماري كوري، مما يؤكد عمق رؤيتها الفنية في معالجة السير الذاتية والقضايا الإنسانية المعقدة.
دلالات الاسم: "برسيبوليس" وتأريخ الهوية
اسم الفيلم ليس مجرد عنوان عابر، بل هو رمز عميق للتاريخ والهوية الإيرانية. "برسيبوليس" هي العاصمة الاحتفالية للإمبراطورية الأخمينية الفارسية القديمة، التي تمثل ذروة الحضارة والقوة في تاريخ إيران. باختيار هذا الاسم، تُحدث ساتراپي تباينًا صارخًا بين المجد العريق للماضي الإيراني القديم، والفوضى والقمع الذي ساد بعد الثورة الإسلامية. إنه تذكير بأن هناك تاريخًا غنيًا يمتد لآلاف السنين، ويجب ألا يُنسى في ظل الأحداث المعاصرة، كما أنه يعكس نوعًا من "فقدان" أو "تغيير جذري" للهوية الإيرانية كما يراها البعض، في إشارة ضمنية إلى الثمن الباهظ الذي تدفعه الدول وشعوبها في الصراعات والتحولات الكبرى.
جمالية الأبيض والأسود مقابل صدمة الألوان
أحد أبرز العناصر الفنية في الفيلم هو استخدام الألوان بالأبيض والأسود لمعظم أحداثه. هذا الاختيار ليس مجرد تفضيل جمالي، بل هو أداة سردية قوية. تصوير ذكريات مارجان في إيران بالأبيض والأسود يعكس الجو القاتم، الكئيب، والخالي من "الألوان" (الحياة، الفرح، الحرية) الذي فرضته القيود السياسية والاجتماعية في البلاد. إنه يرمز إلى قسوة الواقع وقمع الحريات، وكأن الحياة قد جُردت من بهجتها وتنوعها.
على النقيض، عندما تُغادر مارجان إيران وتصل إلى المطار ومن ثم إلى أوروبا، ينتقل الفيلم فجأة إلى استخدام الألوان. هذا الانتقال الصارخ يُعد نقدًا بصريًا لاذعًا للوضع في إيران. الألوان هنا ترمز إلى الأمل، الحرية، التنوع، وإمكانية العيش بحياة أكثر إشراقًا. إنه يعكس التباين بين بيئة مقيدة وبيئة يُفترض أنها توفر مساحة أوسع للتعبير والوجود، ويؤكد أن النظام القائم قد جرد الحياة من "ألوانها" وأجبر الأفراد على البحث عنها خارج الحدود. هذه التناقضات اللونية لا تزال تتردد في أذهاننا، خاصة ونحن نشهد كيف يمكن للسياسة أن تُلقي بظلالها على حياة الشعوب وتُفقدها "ألوانها".
صرخة الروح: مشهد "الصرخة" ودلالاته
يُقدم الفيلم العديد من اللحظات المؤثرة التي تُجسد اليأس والقمع. من أبرزها، الإشارة الواضحة أو الاقتباس البصري من لوحة "الصرخة" الشهيرة للفنان إدفارد مونش. هذه اللحظة تُبرز مدى الضيق النفسي الذي وصل إليه الأفراد تحت وطأة النظام. "الصرخة" ترمز إلى اليأس الوجودي، القلق، وعدم القدرة على تحمل المزيد. عندما تُدمج هذه الأيقونة الفنية في الفيلم، فإنها تُرسل رسالة قوية بأن الوضع في إيران قد أصبح لا يُحتمل، وأن القمع لا يقتصر على الجسد، بل يمتد ليشمل الروح والعقل، دافعًا بالأفراد إلى حافة الانهيار. هذه الصرخة، وإن كانت صامتة في الفيلم، إلا أنها تُسمع بوضوح في كل زمان ومكان حيث تُقمع الحريات وتُسحق كرامة الإنسان.
المطبخ: تحوّل من قفص إلى ملاذ للحوار الأنثوي
في مشهد مؤثر، تُشارك مارجان جدتها آلامها بعد انفصالها عن زوجها وهما في المطبخ. هذا المشهد يُعد نقطة تحول رمزية. غالبًا ما يُنظر إلى المطبخ في الثقافات التقليدية كمساحة حصرية للمرأة في دورها المنزلي. لكن في "برسيبوليس"، يتحول المطبخ إلى ملاذ آمن ومساحة حميمية للحوار العميق والدعم النفسي.
جدة مارجان، وهي شخصية أيقونية للحكمة والقوة، لا تُقدم لها الطعام وحسب، بل تُقدم لها العزاء، الحكمة، والدعم العاطفي غير المشروط. إنها تكسر الصمت وتسمح لمارجان بالتعبير عن ضعفها بحرية، مُذكرًة إياها بقيمتها الذاتية وقدرتها على تجاوز المحن. هذا المشهد يُرسل رسالة قوية بأن المرأة ليست محصورة بأدوارها التقليدية، وأن المساحات "الخاصة" يمكن أن تتحول إلى معاقل للمقاومة الفكرية والعاطفية، حيث يتم تبادل الأفكار الحرة ودعم الروح في مواجهة القيود الخارجية. إنه يجسد قوة الروابط الإنسانية في التغلب على قسوة الواقع.
الرقابة والانتقادات: ثمن الصدق الفني
عندما عُرض فيلم "برسيبوليس" في إيران، حُذفت منه العديد من المشاهد العينية التي تُعتبر حساسة أو مثيرة للجدل بالنسبة للسلطات الرقابية. هذه المشاهد غالبًا ما تتضمن انتقادات مباشرة للنظام، تصويرًا للحريات الشخصية المخالفة للمعايير الرسمية، أو مشاهد تُظهر النساء دون حجاب. هذا الحذف يؤكد قبضة الرقابة الصارمة في إيران، وخوف الأنظمة الاستبدادية من الروايات البديلة التي قد تُثير تساؤلات حول السرد الرسمي.
على الصعيد العالمي، حظي الفيلم بإشادة نقدية واسعة وترشح لجائزة الأوسكار، إلا أنه أثار بعض الانتقادات والجدل في بعض الدول العربية والإسلامية. هذه الانتقادات غالبًا ما تركز على ما اعتبره البعض "تعديًا على الذات الإلهية"، أو إساءة لبعض الرموز الدينية، أو تصويرًا "غير منصف" للثورة الإسلامية. ومع ذلك، تبقى رسالة الفيلم الأساسية هي دعوة للتفكير في العلاقة بين الفرد والسلطة، وأهمية الحرية الإنسانية في كل مكان، وهي رسالة تزداد أهمية مع كل صراع وتوتر تشهده المنطقة.
هل تعكس تجربة مارجان كل إيران؟
من المهم التأكيد أن "برسيبوليس" يقدم تجربة مارجان ساتراپي الشخصية ووجهة نظرها الخاصة حول الأحداث التي عاشتها، وبالتالي، فإنها لا تعكس بالضرورة تجارب جميع الإيرانيين. نشأت مارجان في عائلة ليبرالية ومنفتحة نسبيًا ضمن الطبقة المتوسطة، وهو ما منحها منظورًا مختلفًا عن العديد من الإيرانيين من خلفيات اجتماعية أو دينية أخرى. كما أن تجربتها في الدراسة والعيش في أوروبا، ثم العودة إلى إيران، هي فريدة من نوعها.
الفيلم، بحكم كونه سيرة ذاتية، يركز على المشاعر والتحديات التي واجهتها مارجان تحديدًا، ولا يهدف إلى تقديم وثيقة تاريخية شاملة أو تمثيل لكل فئات المجتمع الإيراني. من خلال هذا المنظور الشخصي، تسعى ساتراپي إلى إبراز الجوانب الإنسانية والعالمية للصراع مع القمع، لكنه يظل منظورًا واحدًا ضمن فسيفساء التجارب الإيرانية المتنوعة. هذا التمييز ضروري لتجنب التعميم وفهم أن الروايات الفنية الشخصية تهدف إلى إثراء فهمنا للواقع، لا إلى تغطيته بالكامل.
إيران: ما وراء الصورة النمطية
رغم الجوانب الصعبة التي يبرزها "برسيبوليس"، من المهم التذكير بأن إيران، كدولة وشعب، لديها تاريخ وحضارة يمتدان لآلاف السنين، وتتميز بثرائها وتنوعها الذي يتجاوز الصور النمطية الشائعة. لإيران حضارة عريقة أثرت في العالم بأسره في مجالات الأدب، العلوم، الفلسفة، والفن المعماري. أسماء مثل الرومي وحافظ لا تزال تلهم الملايين، ومدن كأصفهان وشيراز تشهد على عظمة التصميم والفن.
الشعب الإيراني يُعرف بكرم ضيافته العظيم، واحترامه العميق للكبار، وقوة روابطه الأسرية. كما أن إيران حققت تقدمًا ملحوظًا في التعليم، حيث تتفوق نسبة الفتيات في الجامعات على الفتيان في العديد من التخصصات، وهناك اهتمام متزايد بالبحث العلمي والتكنولوجيا. هذه الجوانب المشرقة تُقدم صورة أكثر اكتمالًا لإيران، بعيدًا عن التحديات السياسية.
مارجان ساتراپي: صوت معارض أم حكواتية؟
بناءً على أعمالها ومواقفها المعلنة، يمكن القول إن مارجان ساتراپي تُعد صوتًا معارضًا للنظام الإيراني الحالي، أو على الأقل ناقدة قوية له. فيلم "برسيبوليس" نفسه هو في جوهره نقد للآثار السلبية للحكم الديني على الحريات الشخصية والنسوية. كما أنها تُعارض بشدة القمع السياسي، الإعدامات، والرقابة الفنية والفكرية. دعمها العلني للحركات الاحتجاجية الأخيرة في إيران، وخاصة حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، يؤكد موقفها الداعم لحقوق الإنسان والحريات في وطنها الأم، وهو ما يُعد تحديًا مباشرًا للخطاب الرسمي. اختيارها العيش في فرنسا هو أيضًا مؤشر على رفضها للظروف الراهنة في إيران.
"برسيبوليس" ليس مجرد فيلم رسوم متحركة، بل هو صرخة فنية قوية تُلامس القلوب وتُثير العقول، مُقدمًا رؤية إنسانية عن كفاح الأفراد من أجل الحياة والحرية في عالم تتغير فيه الألوان باستمرار. وفي ظل ما تشهده منطقتنا اليوم، يبقى هذا الفيلم تذكيرًا بأن أصوات الأفراد وتجاربهم الشخصية هي الأداة الأقوى لفهم تعقيدات السياسة وتأثيرها على النسيج البشري، وأن للحقيقة دائمًا وجوهًا متعددة تستحق الاستماع إليها.
الكاتبة هي: صحافية وناقدة سينمائيّة، محاضرة مُستقلّة في موضوع السينما كأداة للتّغيير الاجتماعيّ، حاصلة على ماجستير بدرجة امتياز في موضوع "ثقافة السينما" من جامعة حيفا.