ملصق الفيلم... لوحة الإعلان أم فن بصري مستقل؟

ملصق الفيلم... لوحة الإعلان أم فن بصري مستقل؟
كتبت: سامية عرموش
هل نتذكر قصة الفيلم دائمًا، أم تبقى في أذهاننا أول صورة رأيناها عنه؟ الملصق السينمائي (البوستر) هو أول سرد بصري للفيلم، وهو الجسر الذي يعبر به العمل الفني من شاشة العرض إلى جدار الذاكرة. الملصق ليس مجرد أداة ترويج، بل هو فن بحد ذاته يجمع بين التصميم، الرسم، والتكثيف الدرامي. لكن يبقى السؤال الجوهري مطروحًا: هل يجب أن نعتبر ملصق الفيلم فناً مستقلاً بذاته؟ وإلى أي مدى تعكس رمزيته وأسلوبه قوة الفيلم نفسه؟
الرمزية والأهمية: كثافة اللحظة في إطار
الدور الأصلي للملصق هو لفت الانتباه وخلق فضول بصري في ثوانٍ معدودة. إنه أداة تسويقية سريعة، تحدد نغمة الفيلم ونوعه (كوميديا، أكشن، غموض). لكن الملصق الناجح يتجاوز هذه الوظيفة. إنه فن التكثيف البصري، حيث يلتقط جوهر القصة والشخصيات الرئيسية في صورة واحدة.
فنان الملصق يستخدم رمزية الألوان، أو زاوية الكاميرا (المرسومة)، أو ترتيب العناصر ليرمز إلى الصراع الداخلي أو الفكرة الفلسفية للفيلم. الملصق الجيد هو بمثابة عقد غير مكتوب بين الفيلم والجمهور؛ يعدهم بتجربة معينة، ويعرض عليهم "مقتطفاً" فنياً يشي بالعمق الكامن خلف القصة.
التميز العالمي: مدارس الملصقات السينمائية
لقد تميزت مدارس فنية معينة حول العالم في الارتقاء بهذا الفن، مما أثبت إمكانية اعتباره فناً بصرياً مستقلاً:
• السينما الأمريكية (هوليوود): تركز غالبًا على النجومية والإنتاج الضخم. الملصق عملي وموجه للسوق، حيث يضم وجوه الممثلين بوضوح، مع لمسة من الإثارة والأكشن.
• السينما البولندية والتشيكية: تُعد هذه المدارس أيقونات في فن الملصقات. تميزت بـ الأسلوب التجريدي والفني العميق. كانت الملصقات البولندية أعمالاً فنية مستقلة، تعتمد على التفسير الفني للفيلم، وغالبًا ما تحمل توقيع الفنان الذي صممها.
• السينما الفرنسية والإيطالية (الكلاسيكية): ركزت على الرومانسية والدراما النفسية، واستخدمت رسومات تفصيلية وألوانًا غنية تعكس حساسية الفيلم الفنية.
دراسة حالة: سحر الملصق في المغرب
إلى جانب هذه المدارس، تبرز تجارب عربية استثنائية تؤكد على الأهمية الفنية للملصق. فعلى سبيل المثال، تؤكد المعارض المتخصصة – مثل المعرض الذي تم رصده في متحف الفنا بسوق مراكش الكبير عام 2023 – الدور المحوري للمغرب كوجهة سينمائية عالمية. هذا المعرض لم يعرض ملصقات محلية فحسب، بل ركز على ملصقات الأفلام العالمية الشهيرة التي صُوّرت في "المدينة الحمراء"، مثل "الرجل الذي عرف أكثر من اللازم" لهيتشكوك. وجود هذه الملصقات في قلب التراث المغربي يعكس القيمة الثقافية للملصق كـ وثيقة بصرية تربط بين الفن المحلي والذاكرة السينمائية الدولية.
الملصق في مصر: بين عراقة الماضي وبراغماتية الحاضر
تُعد السينما المصرية دراسة حالة محورية لفهم تطور هذا الفن في المنطقة العربية:
• الزمن الجميل (الكلاسيكي): كان الملصق المصري في الخمسينيات والستينيات عملاً فنياً مرسوماً يدوياً ببراعة مذهلة. فنانو الملصقات الرواد حولوا البوستر إلى لوحة حقيقية، ركزت على إبراز جمالية النجمة ودرامية الموقف المرسوم بتفاصيل دقيقة. هذه الملصقات لم تكن مجرد إعلانات؛ بل كانت قطعاً فنية ذات قيمة.
• اليوم (الرقمي): حدث تحول كبير، حيث أصبح الملصق يعتمد بالكامل على التصميم الجرافيكي وتجميع الصور الفوتوغرافية (Photoshop). ونتيجة لذلك، فقد الملصق المصري جزءاً كبيراً من روحه الفنية، وأصبح أقرب إلى الأداة الإعلانية البحتة. أصبح الهدف هو الوضوح التجاري والسرعة على حساب العمق الفني أو الرمزية.
تحدي الذكاء الاصطناعي: تغيير طبيعة الفن لا إفناؤه
يطرح ظهور الذكاء الاصطناعي (AI) تحدياً وجودياً جديداً لهذا الفن التطبيقي. فالذكاء الاصطناعي، وخاصة نماذج توليد الصور، يَعِدُ بـ تسريع غير مسبوق للإنتاج، حيث يمكنه توليد عشرات الأفكار في دقائق، مما يلبي حاجة الصناعة للسرعة التجارية. لكن هذا يثير إشكالية خطيرة:
1. توحيد الأسلوب: يميل الذكاء الاصطناعي إلى التعلم من الأنماط الناجحة تجارياً، مما قد يؤدي إلى توحيد بصري ممل للملصقات عالمياً، ويقضي على التنوع والجرأة الفنية التي ميزت المدارس الكلاسيكية.
2. تضاؤل الروح: يواجه الرسامون التقليديون تهديداً مباشراً، حيث يزيل الذكاء الاصطناعي الحاجة للرسم اليدوي، مما يفقد الملصق اللمسة الإنسانية والعاطفية التي كان يحملها.
3. تغيير دور الفنان: يتحول دور المصمم من منفّذ (رسام) إلى مُوجّه (مهندس أوامر) يركز على صياغة الرؤية التي تقود الآلة.
إن الذكاء الاصطناعي لن يقضي على فن تصميم الملصقات، بل سيغير طبيعته. سيتحول التميز من البراعة التقنية إلى العبقرية في التفكير وصياغة الرؤية. ويكمن التحدي في كيفية استخدام هذه الأداة الجديدة للحفاظ على التنوع الفني وتجنب الوقوع في فخ التوحيد التجاري.
الخلاصة: فن تطبيقي مهدد بالانقراض
الملصق هو فن تطبيقي. لا يمكن أن ينفصل عن وظيفته الترويجية، لكنه يرتقي ليصبح فناً مستقلاً عندما يتجاوز حدود التلخيص ويتحول إلى عمل فني بصري يحمل توقيع مصممه الخاص ورؤيته الفنية، كما ظهر في المدارس الأوروبية أو الملصق المصري الكلاسيكي.
في عالمنا الرقمي السريع، يطرح اختفاء الرسم اليدوي سؤالاً عن قيمة أول انطباع بصري نأخذه عن الفيلم. إن قوة السينما لا تكمن فقط في الإخراج والقصة، بل في قدرتها على الإبهار والتكثيف، وهو ما جسده الملصق السينمائي لقرابة قرن من الزمان. علينا أن نعيد تقدير هذا الفن المهدد بالانقراض أمام سرعة التكنولوجيا.
**زرت متحف الفنا في مراكش في العام 2023.