الاثنين , 03 نوفمبر 2025 - 4:43 مساءً

حين يفكّر الله فينا… ينهزم اليأس - بقلم: رانية مرجية

رانية مرجية

رانية مرجية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

بقلم: رانية مرجية

هناك لحظات في حياة الإنسان يظنّ فيها أن الله نسيه، وأن الأرض تدور على محورٍ لا يعرف اسمه. لحظات يصبح فيها الرجاء فعلاً بطوليًا لا يجرؤ عليه سوى من ذاق الانكسار وخرج منه بنبضٍ باقٍ في صدره.
لكن وسط هذا الرماد، تتردّد همسة قديمة، قالها النبي منذ قرون، وما زالت تتدفّق بالحياة:

“لأني عرفتُ الأفكار التي أنا مفتكرٌ بها عنكم، يقول الرب، أفكارُ سلامٍ لا شرّ، لأُعطيكم آخرةً ورجاء.” (إرميا 29:11)

تبدو هذه الكلمات، في زمنٍ يفيض بالخراب، كرسالة مكتوبة بخطٍّ إلهيّ في منتصف الفوضى.
هي ليست وعدًا بأن الألم سينتهي، بل وعدٌ بأن الألم ليس نهاية القصة.

 بين الفكر الإلهي والضجيج الإنساني

العالم اليوم يقدّس السرعة، فيقتل التأمل. يُعلّمنا أن نكون ناجحين لا سعداء، متصلين لا حاضرين.
أمام هذا الصخب، تبدو فكرة أن “الله يفكر فينا” أشبه بنغمة هادئة وسط عاصفة آلاتٍ صاخبة.
لكنها النغمة الوحيدة التي تحمل المعنى.

حين يقول الله إنه يفكر فينا، لا يقصد مجرد التعاطف، بل المشاركة.
فالفكر الإلهي ليس فكرة عابرة، بل فعل محبةٍ خلاق؛
هو تصميم غير مرئي على الخير، حتى لو بدا العالم في لحظته الراهنة خاليًا من الرحمة.
هو فكر لا يتغيّر بتقلباتنا، ولا يُلغى بذنوبنا.
هو فكر سلام — سلام أعمق من الهدوء، لأنه يُزرع في قلب العاصفة.

 الألم ليس عدوًا… بل مترجم الحقيقة

تعلمت من التجارب القاسية أن الألم لا يدمّرنا بقدر ما يعرّينا من الزيف.
هو المرآة التي تُرينا من نحن حين تُسحب من تحتنا كل الأقنعة.
في كل وجعٍ، هناك فرصة لأن نكتشف جوهرنا الإنساني، وأن نرى الله ليس كقاضٍ بعيد، بل كرفيقٍ يسير معنا على الطريق.

رأيتُ أمًّا فقدت ابنها، ولم تفقد سلامها.
سألتها: “كيف تبتسمين؟”
قالت بهدوءٍ لا يُنسى: “حين مات، لم أعد أطلب من الله أن يُعيد لي ما أخذ، بل أن يملأ فراغي بحضوره.”
تلك الجملة كانت بالنسبة لي أعظم درسٍ في اللاهوت.
فالله لا يُعيد إلينا ما فُقد، بل يجعلنا نحن جديدين، حتى نصير قادرين على الحياة من جديد.

 في حضرة الرجاء

العالم لا يحتاج مزيدًا من الخطب ولا البيانات، بل إلى قصص رجاء صامتة.
إلى بشرٍ يعيشون فكرة أن الله لم ينسَهم، وأن كل ما يبدو عبثًا هو جزء من لوحة أكبر لا نراها كاملة بعد.
نحتاج أن نؤمن لا بأن الأمور ستكون بخير دائمًا، بل بأنها تعمل معًا للخير، حتى حين لا نفهم ترتيبها.

أن تفكّر أن الله يفكر فيك…
هو أن تشعر أنك لست صدفة في هذا الوجود،
أنك جزء من فكرٍ كونيّ أزليّ،
أنك محبوب حتى في لحظة سقوطك.

الرجاء ليس سذاجة. إنه أعلى درجات الوعي.
هو أن تختار النور رغم معرفتك بوجود الظلام،
أن تؤمن بالحياة بينما تعرف أن الموت حقيقة،
أن ترفع رأسك نحو السماء، لا لأنك تنكر الواقع، بل لأنك ترى ما وراءه.

 خاتمة: الله لا ينسى الأسماء

كل إنسانٍ يحمل اسمه محفورًا في فكر الله.
حين يفكر الله فينا، لا يكتب تقريرًا عنا، بل قصة معنا.
كل فصلٍ مؤلم فيها هو تمهيدٌ للصفحة التالية، وكل غيمةٍ تمرّ تحمل مطرًا في جوفها.

فلنطمئن…
إن كان الله يفكر فينا، فلن يكون الألم عبثًا،
ولن يكون الغد مجهولًا،
ولن يكون الرجاء ضعيفًا.

سيبقى الله يفكر، وسنبقى نحن نحيا على فكره.
وهذا وحده كافٍ لأن ينهزم اليأس.
 

×