الأربعاء , 28 مايو 2025 - 10:48 مساءً

سفر الرؤيا… صرخة الغيب في زمن الوحش المعولم - بقلم: رانية مرجية

رانية مرجية

رانية مرجية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

في زمن انقلبت فيه المعايير، وساد فيه التواطؤ حتى في أبسط تفاصيل الحياة، أجد نفسي أعود مرارًا وتكرارًا إلى نصٍ يُقرأ لا بالحواس بل بالوجدان المرتجف… نصٍ مكتوب بحبر الدم وبلغة الحلم المشفّر. إنه سفر الرؤيا، هذا السفر الذي يُخيف البعض ويربك آخرين، لكنه عندي، كابنة لهذا الشرق المجروح، بمثابة ترنيمة نبوية تنبض بالحقيقة المقمعة.

كيف لا، ونحن نعيش اليوم وسط عالم تتهاوى فيه القيم كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة في أرض عطشى؟ كيف لا ونحن نرى الوحش – لا وحشاً واحداً بل وحوشاً عديدة – تنهش في جسد الإنسان والإنسانية، بينما تُفرَض علينا الأوهام كأنها شرائع مقدسة، ويُطلب منّا أن نسجد لتمثال العجل الجديد: المال، النفوذ، الإعلام، والهيمنة؟

سفر الرؤيا ليس سفر نهاية فقط، بل سفر تعرية، سفر مقاومة. هو مرآة يمدّها النص الإلهي في وجه العالم المزوّر. هو رُمحٌ في خاصرة الزيف، وجرسٌ يدقّ في عمق الليل ليوقظ الضمير.

الختم الأول: فارس أبيض أم استعمار أبيض؟
“وإذا فرس أبيض، والجالس عليه معه قوس، وقد أُعطي إكليلاً، فخرج غالباً ولكي يغلب”.
من هو هذا الفارس؟ أهو المخلّص أم المستعمِر الذي لبس ثوب الحمل وهو في جوهره ذئب؟ ألا نرى اليوم كمّاً هائلاً من التدخلات الدولية تُفرض على الشعوب باسم الديمقراطية، وهي في الحقيقة ليست سوى أدوات لإدامة السيطرة والهيمنة؟ إن هذا الفارس الأبيض ما زال يمتطي جواده، لكن قوسه الآن يُصوّب عبر أقمار صناعية، ومنصات إعلام، وبنوك عالمية، ويطلق سهامه باتجاه الشعوب المقهورة، من بغداد إلى دمشق، ومن القدس إلى رفح.

الفارس الأحمر: الدم على ضفاف المتوسط
“فخرج فرس آخر، أحمر، وللجالس عليه أُعطي أن ينزع السلام من الأرض”.
هل هناك سلام منقوص أكثر مما نراه اليوم في وطننا؟ كم من الدماء سالت، وكم من القلوب تمزقت، وكم من الأمهات كفنّ فلذات أكبادهنّ دون أن يُسمح لهنّ حتى بدمعة!

في غزة، كل يوم يولد من رحم المجزرة. في رفح، تسيل الرؤيا كنهر دم، يكتبها الأطفال على الجدران بالفحم والرماد. وفي الضفة، يسير الفارس الأحمر مطمئناً، تحرسه تواقيع اتفاقيات خادعة ومواقف دولية مخجلة.

المرأة المتسربلة بالشمس… فلسطين؟
وفي وسط هذه الفصول العنيفة من رؤيا يوحنا، تطل علينا صورة “المرأة المتسربلة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً”. هذه المرأة التي تصرخ من ألم المخاض، وتُطارد من التنين، أما تذكّرنا بأرضنا – فلسطين؟ ألا تذكّرنا بأمهات الشهداء، وبكل امرأة أنجبت حلماً ثم حاصرته الجرافات، أو صادرت أمله الحواجز؟

إن هذه المرأة لا تموت. هي المخاض نفسه، وهي الثورة، وهي المظلومة التي لا تقبل إلا أن تكون منتصرة في نهاية المطاف. وحتى إن طاردها التنين، فإن للسماء مأوى يُخبئها، وإن اشتد الليل، فإن الشمس لن تخلع ثوبها عنها.

بابل العظيمة… المدينة الساقطة فينا
“وسمعت صوتًا آخر من السماء قائلاً: اخرُجوا منها يا شعبي، لئلا تشتركوا في خطاياها”.
بابل ليست مدينة واحدة. بابل اليوم تتجسد في العواصم المذهبة والمضللة، في الأنظمة التي باعت الإنسان مقابل صفقة، وفي منابر تُستَخدم لتمرير الكذب بآيات من الكتاب.

كم من بابل اليوم ما زالت تقايض دم الأبرياء بنفط، وحق الشعوب بقرار أممي مشوّه؟ بابل العظيمة سقطت، نعم، لكنها تقوم كل يوم بلباس جديد، وعطورها الآن ليست عطر المرّ بل عطر التجميل السياسي.

بين الوحش والحمل… الحسم الروحي
في قلب سفر الرؤيا، لا يبقى الصراع بين أنظمة، بل يتحوّل إلى معركة روحية. الوحش الذي صعد من البحر، بأبواقه السبعة، يشبه هذا النظام العالمي الجديد، حيث الحقيقة تُزيف، والحق يُحاصر، والناس تُستعبَد ليس بالسلاسل بل بالإعلانات، وبالهواتف الذكية، وبأجندات لا يقرؤها أحد لكنها تسوق الجميع نحو السجود للصورة.

لكن ما يُدهشني في الرؤيا ليس اتساع الجحيم، بل بقاء الحمل واقفًا. “ورأيت خروفًا قائمًا كأنه مذبوح”، هذا الخروف لا يموت، رغم أنه لا يحارب بالسيف بل بالصدق. هو رمز الأمل الصامت، الصمود غير الدموي، الحضور الإلهي في صمت المظلومين.

خاتمة: “وها أنا آتي سريعًا”
أجمل ما في سفر الرؤيا أنه لا يترك القارئ في ظلام النهايات. بل يختمه بوعد:
“وها أنا آتي سريعًا… طوبى لمن يغسلون ثيابهم، ليكون لهم سلطان على شجرة الحياة…”
وكأن الرؤيا تقول لنا: لا تستسلموا. هناك قيامة في الأفق. ولكن القيامة لا تُعطى مجانًا. لا تأتي إلا لمن ثبتوا، لمن رفضوا أن يسجدوا للوحش، حتى وإن كلفهم ذلك حياتهم.

أنا لا أقرأ سفر الرؤيا لأتنبأ بالمستقبل، بل لأواجه الحاضر. لأقول: كفى. لأقول: نحن نعرف الوحش، ونعرف الحمل. وقد اخترنا أن نكون من أتباع الحمل، لا لأننا ضعفاء، بل لأننا أقوياء بما يكفي لنحمل صليبنا ونقاوم

×