مريم العذراء في القرآن الكريم… أيقونة الرحمة في زمن القسوة - بقلم: رانية مرجية

رانية مرجية
في زمن يتراكم فيه الظلام، وتختلط فيه الأصوات حتى يفقد الإنسان بوصلته، تبقى مريم، سيدة النور، شاهدة على الطهارة المتمردة، وعلى الصمت الصادق الذي لا يحتاج إلى تبرير. وحين يذكرها القرآن الكريم، لا يقدّمها كامرأة عابرة، بل كرسالة إلهية تمشي على الأرض، وكأمٍ لم تكن فقط لسيدنا يسوع المسيح، بل للبشرية كلها في لحظة صقيعها الروحي.
امرأة تنفرد بالله… فتصير آية
“واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا”
(سورة مريم: 16)
منذ اللحظة الأولى، نراها تنسحب من ضوضاء المجتمع إلى مكان “شرقي”، رمز النور والبدايات. لم تكن مريم تهرب، بل كانت تختار العزلة لتفتح قلبها لله وحده. امرأة اختارت الصمت والضوء، فاختارها الله لتكون معجزة من لحم ودم.
مواجهة الغيب بشجاعة الروح
“فتمثل لها بشراً سوياً، قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًّا”
(مريم: 17–18)
جبريل يتمثل بشراً، ومريم تواجه المشهد بكل ما في قلبها من نور. لا ترتجف ولا تهرب، بل تلجأ إلى الرحمن. هذا الاسم الذي تختاره هي دون غيره، لأنه وحده يحتضن الضعف والرجاء، ويستجيب لمن احتمى به صدقًا.
سيدنا يسوع المسيح… كلمة الله في مهد البراءة
“قال: كذلك قال ربك: هو عليّ هيِّن، ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمرًا مقضيًّا”
(مريم: 21)
وهكذا يولد سيدنا يسوع المسيح، لا من سياق أرضي تقليدي، بل من قرار إلهي يجعل من رحم مريم بوابة رحمة، ومهدها مذبحًا للمعجزة. لم يكن الميلاد فقط حدثًا خارقًا، بل بيانًا سماويًا ضد قوانين البشر الضيقة، وضد العادات التي تقيس الطهر بالمظهر لا بالنية.
السيدة مريم في قلب العاصفة
“فأتت به قومها تحمله، قالوا: يا مريم لقد جئت شيئًا فريًّا”
(مريم: 27)
تخيّلتها تمشي في شوارع الناصرة، أو ربما في أزقة القدس، تحمل بين ذراعيها سيدنا يسوع المسيح، والناس يرمقونها بنظرات الاتهام. لم تتكلم، لأنها كانت تعلم أن الحقيقة لا تحتاج دفاعًا، وأن من حملتْه سينطق.
“قال: إني عبد الله، آتاني الكتاب، وجعلني نبيًّا”
(مريم: 30)
في لحظة صمتها، نطق المولود. تحدث باسم الله، فبرّأها، وأكد مهمته، ورفعها فوق كل الظنون.
مريم… امرأة لا تشبه أحدًا
في عالم يتسابق لتأطير النساء، لتقييدهن ضمن أدوار محددة، تأتي مريم لتكسر الصورة. فهي ليست فقط أمًّا، بل آية. ليست تابعًا لأحد، بل مركزًا في الحكاية. سيدة اختارها الله، فاصطفاها، وطهّرها، ورفعها لتكون خالدة في قلوب المؤمنين.
في القرآن، كما في الروح، تبقى مريم المثال الأعلى للمرأة القوية في ضعفها، الشجاعة في صمتها، المؤمنة حين يخذلها القريب والغريب. لم تكن بحاجة إلى كلمات كثيرة، بل إلى قلب صادق ممتلئ باليقين.
⸻
خاتمة: نداء من سورة مريم لكل الأزمنة
سورة مريم ليست فقط قصة قديمة، بل رسالة معاصرة. في عالم تحكمه الشائعات والمظاهر، تعلمنا مريم أن الصمت أبلغ من الصراخ، وأن الثقة بالله أقوى من أي تبرير.
في كل امرأة تُتَّهم ظلمًا، في كل أم تنجب رغم اليأس، في كل قلب يختار النور بدل الضجيج، تعيش مريم من جديد.
وكلما ضاقت الدنيا، تكفينا همسة من السماء تقول:
“وكان أمرًا مقضيًّا.”