تسطيح المحتوى الإعلامي: ناقوس خطر يهدد الوعي والذوق العام

تسطيح المحتوى الإعلامي: ناقوس خطر يهدد الوعي والذوق العام
كتبت: سامية عرموش
في عصرنا الحالي الذي يشهد انتشارًا واسعًا للمنصات الإعلامية على أشكالها المختلفة، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي والبودكاست والإذاعات التقليدية، هل فقد إعلامنا بوصلته؟ هل أصبحت الشاشات وموجات الأثير مرتعاً للثرثرة والتفاهة بدلاً من التنوير؟ تتزايد اليوم ظاهرة مقلقة تتمثل في تسطيح المحتوى وتسخيفه في بعض الحوارات الصحافية. يُبرر البعض هذا التوجه بحجة أن "هذا ما يحبه الجمهور"، لنجد أنفسنا أمام موجة من البرامج التي تحوّل "الدردشات الخفيفة" التي تسبق التعمق في المواضيع الجادة إلى حوارات "صفراء" تهبط إلى مستوى "القال والقيل".
هذا التحول ليس مجرد عابر، بل هو ناقوس خطر أحمر. تهدد آثاره ليس فقط المناخ الإعلامي العام، بل تمتد لتشمل جوانب أعمق في مجتمعاتنا، كالذوق العام، وحتى مسار الصحافة بمختلف أنواعها، خاصة الصحافة الاجتماعية، الثقافية والفنية.
إن الإعلام، بصفته مرآة تعكس واقع المجتمع ووسيلة لتشكيل الوعي العام، يفقد جوهره الأساسي المتمثل في تقديم معلومات موثوقة وتحليل عميق للقضايا وإثراء النقاش العام عندما يتحول المحتوى الإعلامي إلى مجرد تفاهات وتسخيف. هذا التدهور يؤدي إلى تراجع جودة المحتوى بشكل عام، فبدلاً من استضافة خبراء ومتخصصين يناقشون قضايا مهمة بعمق، تُفضل بعض البرامج استضافة شخصيات معروفة لمجرد جذب الانتباه، حتى لو كان حديثهم يفتقر إلى المضمون والفائدة. ومع هذا التوجه، يفقد الجمهور الثقة في الوسائل الإعلامية التي تتجه نحو الترفيه الرخيص بدلاً من الجدية والموضوعية، مما يدفعهم للبحث عن مصادر أخرى للمعلومات، أو التوقف عن متابعة الأخبار تمامًا. وتزيد الطين بلة ظاهرة ترويج الشائعات والأكاذيب، حيث غالبًا ما تعتمد هذه الحوارات الضحلة على الإثارة، مما يدفع بعض المذيعين أو الضيوف إلى تداول معلومات غير مؤكدة أو شائعات، الأمر الذي يساهم في انتشار المعلومات المضللة وتشويه الحقائق.
ولم تسلم الصحافة الاجتماعية، الثقافية والفنية من هذا التسطيح، بل يبدو أنها الأكثر تضررًا. فبدلاً من أن تكون منابر لتوثيق وتأريخ الظواهر الاجتماعية، المشاهد الثقافية، أو التطورات الفنية بمختلف عقودها وحقبها، وتحليل الأعمال والإنجازات وتأثيرها، تمحورت تغطيتها حول طلاق هذه الفنانة أو تلك، أو أحدث صيحات الموضة التي ترتديها، أو الخلافات الشخصية بين النجوم، أو الشائعات التي تطال هذا المؤثر الاجتماعي أو ذاك. إن الوقوف عند توافه الأمور هذا أصبح خطرًا داهماً، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على الذوق العام. عندما يُقدم المحتوى بهذه الطريقة، يُرسخ في أذهان الجمهور أن حياة الشخصيات العامة الشخصية ومشاكلهم التافهة أهم من إبداعاتهم، إسهاماتهم الثقافية، أو دورهم الاجتماعي. وهنا، يجب التأكيد على نقطة جوهرية: إذا خضنا في الجانب الشخصي للشخصية العامة (فنان، أديب، مؤثر اجتماعي)، فيجب أن يكون لذلك سبب وهدف نبيل. على سبيل المثال، يمكن تسليط الضوء على طفولة صعبة عاشها فنان أو كاتب وكيف تغلب عليها ليحقق ذاته وينجح في مجاله، فهذا يعكس قصة كفاح وإلهام وتحدٍ. أما غير ذلك، فإن التعمق في التفاصيل الشخصية التي لا تضيف قيمة أو عبرة، لا يعدو كونه "ثرثرة" لا تخدم الفن، الثقافة، المجتمع، أو الجمهور.
تتسع آثار هذا المحتوى الضحل لتشمل الوعي المجتمعي والذوق العام. فالمجتمع يصبح أقل قدرة على الانخراط في نقاشات جادة حول قضايا مصيرية، حيث يتجه الاهتمام نحو الأمور التافهة والشخصية بدلاً من التحديات الحقيقية التي تواجه الأفراد والمجتمعات. وعندما يُروّج الإعلام للتفاهة والثرثرة، فإنه يساهم في تشويه منظومة القيم والمبادئ التي يجب أن تسود في المجتمع، مثل الجدية، والموضوعية، والاحترام المتبادل، والتقدير للإنجازات الحقيقية. وينشأ جيل جديد على مفهوم أن الإعلام هو مجرد وسيلة للترفيه والتسلية، مما يفقدهم القدرة على التفكير النقدي، وتحليل المعلومات، وتمييز الغث من السمين، ويؤثر سلباً على تقديرهم للفن الأصيل، المحتوى الثقافي الهادف، والقضايا الاجتماعية الجادة. وبدلاً من توعية الجمهور بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الملحة، تُشغلهم هذه الحوارات السطحية عن واقعهم، مما يجعلهم أقل قدرة على المشاركة الفاعلة في بناء مجتمعاتهم.
إن ما يزيد الطين بلة هو أننا نصادف أحيانًا محتوى سطحيًا، لدرجة أن المرء يتساءل: كيف مر هذا المحتوى "مر الكرام" على طاقم الإعداد ومن يقدمه؟ وكيف لا يخجل من يقدم هذه المضامين من عرضها على الملأ؟ هذا التساؤل يعكس مدى تآكل المعايير المهنية والأخلاقية في بعض الأوساط الإعلامية. فالمسؤولية لا تقع فقط على عاتق المذيع أو مقدم البرنامج، بل تمتد لتشمل طاقم الإعداد الذي يفترض أن تكون لديه معايير للجودة والمضمون، والمنتجين والمشرفين الذين يجب أن يمارسوا دورهم في فلترة المحتوى وضمان التزامه بالمعايير المهنية والأخلاقية، والمؤسسات الإعلامية نفسها التي تحدد التوجه العام لبرامجها وتفترض وجود رؤية واضحة للمحتوى الذي تقدمه للجمهور. إن غياب هذا الخجل المهني والأخلاقي يشير إلى أن الهدف الوحيد أصبح جذب الانتباه بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الفائدة، القيمة، أو حتى الأخلاق العامة، وهو ما يمثل تدهورًا خطيرًا يضرب في صميم دور الإعلام كمؤسسة تنويرية وتوجيهية.
لمواجهة هذا الخطر، تتطلب جهودًا متضافرة من جميع الأطراف المعنية. على الإعلاميين، بصفتهم حراسًا للحقيقة، أن يتحلوا بالمسؤولية المهنية والأخلاقية، وأن يقاوموا إغراءات "التريند" والبحث عن الإثارة الزائفة. ينبغي عليهم التركيز على تقديم محتوى ذي قيمة، يعزز الوعي ويثري النقاش العام. وفي الصحافة الاجتماعية، الثقافية والفنية، يجب العودة إلى دورها الأصيل في توثيق الإنجازات، تأريخ الظواهر، تحليل الأعمال والإبداعات، وتقديم قصص ملهمة من حياة الشخصيات العامة تعزز القيم الإيجابية والتعلم. أما المؤسسات الإعلامية، فيجب عليها أن تضع معايير صارمة لجودة المحتوى، وأن تستثمر في البرامج الجادة التي تخدم المصلحة العامة، بدلاً من التركيز على الربح السريع على حساب الجودة والمصداقية. وأخيراً، يقع على عاتق الجمهور مسؤولية كبيرة في التمييز بين المحتوى الهادف والمحتوى السطحي، فبمتابعة البرامج الجادة ودعمها، يساهم الجمهور في توجيه البوصلة الإعلامية نحو ما يخدم مصلحة المجتمع.
في الختام، إن تسطيح المضامين وتسخيفها في الحوارات الصحافية ليس مجرد مشكلة عابرة، بل هو خطر حقيقي يهدد مستقبل إعلامنا، مجتمعاتنا، وذوقنا العام. إنها دعوة للجميع، إعلاميين ومؤسسات وجمهور، للتحلي بالوعي والمسؤولية، والعمل معًا لاستعادة قيمة الإعلام كمنارة للتنوير، ومحفز للتقدم، ومرآة صادقة تعكس تطلعاتنا وأحلامنا.
**الصورة من العام 2014، وقد حاورني الزميل مصطفى قبلاوي عن مهامي كناطقة بلسان بلدية حيفا آنذاك.